فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{إِنَّ عَلَيْنَا للهدى}
أي إن علينا أن نُبَيِّن طريق الهدى من طريق الضلالة.
فالهدى: بمعنى بيان الأحكام، قاله الزجاج: أي على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته؛ قاله قتادة.
وقال الفرّاء: من سلك الهدى فعلى الله سبيله؛ لقوله: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9] يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد.
وقيل: معناه إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال؛ كقوله: {بِيَدِكَ الخير} [آل عمران: 26]، و{بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [ياس: 83].
وكما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وهي تقي البرد؛ عن الفرّاء أيضاً.
وقيل: أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه.
{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} {لَلآخِرَةَ} الجنة.
{والأولى} الدنيا.
وكذا روى عطاء عن ابن عباس.
أي الدنيا والآخرة لله تعالى.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة} [النساء: 134] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
قوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ} أي حذرتكم وخوّفتكم.
{نَاراً تلظى} أي تَلَهَّب وتتوقد.
وأصله تتلظى.
وهي قراءة عُبيد بن عُمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف.
{لاَ يَصْلاَهَآ} أي لا يجد صَلاَها وهو حرها.
{إِلاَّ الأشقى} أي الشقي.
{الذي كَذَّبَ} نبي الله محمداً صلى الله عليه وسلم.
{وتولى} أي أعرض عن الإيمان.
وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها.
قال: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كَذَّب وتولى.
وقال مالك: صلَّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ {والليل إِذَا يغشى} فلما بلغ {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعدّاها من البكاء، فتركها وقرأ سورة أخرى.
وقال الفرّاء: {إلا الأشقى} إلا من كان شقِياً في علم الله جل ثناؤه.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: {لا يصلاها إلا الأشقى} أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله.
وقال الفرّاء: لم يكن كذب بردّ ظاهر، ولكنه قصَّر عما أُمِر به من الطاعة؛ فجُعِل تكذيباً؛ كما تقول: لقِي فلان العدوّ فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه.
قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نُمَيْر ليس لجِدّهم مكذوبة.
يقول: إذا لَقُوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا.
وكذلك قوله جل ثناؤه: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] يقول؛ هي حق.
وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر؛ لقوله جل ثناؤه: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} وليس الأمر كما ظنوا.
هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى.
ولأهل النار منازل؛ فمنها أن المنافقين في الدِّرْك الأسفل من النار؛ والله سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به.
وقال جل ثناؤه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48]، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذَّب، لم يكن في قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} فائدة، وكان {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} كلاماً لا معنى له.
الزمخشريّ: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل: الأشقى، وجعل مختصاً بالصَّلى، كأن النار لم تخلق إلا له.
وقيل: الأتقى، وجعل مختصاً بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له.
وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف.
وأبو بكر رضي الله عنه.
قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا} أي يكون بعيداً منها.
{الأتقى} أي المتقي الخائف.
قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي الله عنه، يزحزح عن دخول النار.
ثم وصف الأتقى فقال: {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدق به مبتغياً به وجه الله تعالى.
وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله: {الأتقى} و{الأشقى} أي النقيّ والشقيّ؛ كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحدِ

أي واحد ووحيد؛ وتوضع (أَفْعَل) موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] بمعنى هين.
قوله تعالى: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أي ليس يتصدق ليجازِيَ على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي {وَلَسَوْفَ يرضى} أي بالجزاء.
فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: عَذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول أحد أحد؛ فمرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أحد يعني الله تعالى ينجيك» ثم قال لأبي بكر: «يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله» فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلاً من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه.
فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليدٍ كانت له عنده. فنزلت {وَمَا لأحد عِندَهُ} أي عند أبي بكر {مِن نِّعْمَةٍ}، أي من يدٍ ومِنَّة، {تجزى} بل {ابتغاء} بما فعل {وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى}.
وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبيّ بن خلف بِلالاً، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4].
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر: أَتَبِيعُنِيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنِسطاس، وكان نِسْطاس عبداً لأبي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ، وكان مشركاً، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون له مالُه، فأبى، فباعه أبو بكر به.
فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده؛ فنزلت: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء} أي لكن ابتغاء؛ فهو استثناء منقطع؛ فلذلك نصبت.
كقولك: ما في الدار أحد إلا حماراً.
ويجوز الرفع.
وقرأ يحيى بن وثاب {إلا ابتغاءُ وجهِ ربه} بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى.
وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:
أضحتْ خَلاءً قِفاراً لا أنيسَ بها ** إلا الجآذرَ والظلمانَ تختلفُ

وقول القائل:
وبلدةٍ ليسَ بها أنيسُ ** إلا اليعافيرُ وإلا العِيسُ

وفي التنزيل: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] وقد تقدم.
{وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} أي مَرْضاته وما يقرّب منه.
و{الأعلى} من نعت الرب الذي استحق صفات العلو.
ويجوز أن يكون {ابتغاء وجهِ ربه} مفعولاً له على المعنى؛ لأن معنى الكلام: لا يؤتِي ماله إلا ابتغاء وجهِ ربه، لا لمكافأة نعمته.
{وَلَسَوْفَ يرضى} أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضى؛ وذلك أن يعطيه أضعاف ما أنفق.
وروى أبو حَيّان التيميّ عن أبيه عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِم الله أبا بكر! زوجنِي ابنته، وحملني إلى دار الهِجرة، وأعتق بلالاً من ماله»
ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل الله؟ قال: بل لعمل الله قال: فذرني وعمل الله، فأعتقه.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا (يعني بلالاً رضي الله عنه).
وقال عطاء وروي عن ابن عباس: إن السورة نزلت في أبي الدَّحداح؛ في النخلة التي اشتراها بحائط له؛ فيما ذكر الثعلبيّ عن عطاء.
وقال القشيريّ عن ابن عباس: بأربعين نخلة؛ ولم يسم الرجل.
قال عطاء: «كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحِها في دار جارٍ له، فيتناوله صبيانه، فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: تبيعها بنخلة في الجنة؟ فأبى؛ فخرج فلقِيه أبو الدَّحداح فقال: هل لك أن تبِيعنِيها بـ: (حُسْنَى): حائط له.
فقال: هي لك.
فأتى أبو الدَّحداح إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، اشترها مني بنخلة في الجنة.
قال: نعم، والذي نفسي بيده. فقال: هي لك يا رسول الله؛ فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم جار الأنصاريّ، فقال: خذها. فنزلت {والليل إِذَا يغشى} إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} يعني أبا الدحداح»
.
{وَصَدَّقَ بالحسنى} أي بالثواب.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى}: يعني الجنة.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} يعني الأنصاريّ.
{وَكَذَّبَ بالحسنى} أي بالثواب.
{فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الليل: 10]، يعني جهنم.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} أي مات.
إلى قوله: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} يعني بذلك الخزرجِيّ؛ وكان منافقاً، فمات على نفاقه.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} يعني أبا الدحداح.
{الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} في ثمن تلك النخلة.
{وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} يكافئه عليها؛ يعني أبا الدحداح.
{وَلَسَوْفَ يرضى} إذا أدخله الله الجنة.
والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه.
وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم.
وقد ذكرنا خبراً آخر لأبي الدحداح في سورة (البقرة)، عند قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245].
والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ عَلَيْنَا للهدى}
استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أي ندلهم ونرشدهم إلى الحق أو أن نبين لهم طريق الحدى وما يؤدي إليه من طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه فلا يتم الاستدلال بالآية على الوجوب عليه عز وجل بالمعنى الذي يزعمه المعتزلة وقيل المراد أن الهدى موكول علينا لا على غيرنا كما قال سبحانه: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] وليس المعنى أن الهدى يجب علينا حتى يكون بظاهره دليلاً على وجوب الأصلح عليه تعالى عن ذلك علوًّا كثيراً وفيه أن تعلق الجار بالكون الخاص أعني موكولاً خلاف الظاهر ومثله ما قيل أن المراد ثم أن علينا طريقة الهدى على معنى أن من سلك الطريقة المبينة بالهدى والإرشاد إليها يصل إلينا كما قيل في قوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل أي من سلك السبيل} [النحل: 9] القصد أي المستقيم وصل إليه سبحانه: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ والأولى (13)}
أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل فيهما ما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما ذكرنا فيمن أعطى وفيمن بخل أو أن لنا ذلك فنثيب من اهتدى وأنجع فيه هدانا أوان لنا كل ما في الدارين فلا يضرنا ترككم الاهتداء وعدم انتفاعكم بهدانا أو فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم فمن اهتدى {فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} [يونس: 108].
{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} قيل متفرع على كون الهدى عليه سبحانه أي فهديتكم بالإنذار وبالغت في هدايتكم و{تلظى} بمعنى تلتهب وأصله {تتلظى} بتاءين فحذفت منه أحداهما وقد قرأ بذلك ابن الزبير وزيد بن على وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير.
{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الأشقى (15)}
المراد به الكافر فإنه أشقى من الفاسق ويفصح بذلك وصفه بقوله تعالى: {الذى كَذَّبَ} أي بالحق {وتولى} وأعرض عن الطاعة.
{وَسَيُجَنَّبُهَا} أي سيبعد عنها {الأتقى} المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها واستشكل بأن صلى النار دخولها أو مقاساة حرها وهو لازم دخولها على المشهور فالحصر السابق يقتضي أن لا يصلي المؤمن العاصي النار لأنه ليس داخلاً في عموم {الأشقى} الموصوف بما ذكر وان سيجنبها {الأتقى} يقتضي بمفهومه أن غير {الأتقى} أعني التقى في الجملة وهو المؤمن العاصي لا يجنبها بل يصلاها فبين الحصرين مخالفة وأجيب بأن الصلى مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها بل هو مقاساته على وجه الأشدية فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلى أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمراً كثيراً ثم يعمدوا لي شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه فالمعنى لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا {الأشقى} وسيعد عنها {الأتقى} فلا يدخلها فضلاً عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن غير {الأشقى} وهو المؤمن العاصي لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية ولا يلزم منه أن لا يدخلها ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذاباً دون ذلك العذاب ويلزم من الثاني أن غير {الأتقى} لا يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التفي في الجملة وهو المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب بل غايته أنه لا يجنبها فيجوزو أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذاباً ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في الصلى الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى وسيجنبها كذا قيل واستحسن جعل السين للتأكيد ليكون المعنى يجبنها {الأتقى} ولابد فيفيد على القول بالمفهوم إن غيره وهو المؤمن العاصي لا يجنبها ولابد على معنى أنه يجوز أن يجنبها وجيوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير بها وقرر الزمخشري الاستشكال بأنه قد علم أن كل شقي بصلاها وكل تقي بجنيها لا يختص الصلى باشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين ذلك.
وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا {الأشقى} غير صال وغير هذا {الأتقى} غير مجنب بالكلية واستحسنه في الكشف فقال هو معنى حسن وأنت تعلم أن مبني ما قاله على الاعتزال وتخليد العصاة في النار وقال القاضي إن قوله تعالى: {لا يصلاها} [الليل: 15] لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكافر كما يقول المرجئة وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها فالمراد أن ناراً من النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الاتقي منهم خاصة وأجيب بأنه لعل هذها القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا {الأتقى} عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحصر في لإيصالها إلخ فإنه كالنص في بادئ النظر فيما يدعيه المرجئة لحملهم الصلى فيه على مطلق الدخول وأيدوه بما أخرج الأمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إلا من شقى قيل ومن الشقي قال الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ولا يترك لله تعالى معصية». وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعواهم وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بين في موضعه وقيل في الجواب أن المراد بـ: {الأشقى} و{الأتقى} الشقي والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة:
تمنى رجال أن أموت فإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره مع أنه خلاف المذهب الحق وأيضاً أن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغير المكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجنبونها وقيل غير ذلك ولعلك بعد الاطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ما عليه الجماعة في أهل الجمع نستحسن ان قلت بالمفهوم ما استحسنه صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وإن لم تكن ممن يقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل.
وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضمير هاهنا المفعول الثاني و{الأتقى} المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل ويقال جنب فلان خيراً وجنب شراً وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصلب جنبته كما قيل جعلته على جانب منه وكثيراً ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الأتقى.
{الذى يُؤْتِى مَالَهُ} أي يعطيه ويصرفه {يتزكى} طالباً أن يكون عند الله تعالى زاكياً نامياً لا يريد به رياء ولا سمعة أو متطهراً من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير {يؤتي} وجوز أن تكون بدلاً من الصلة فلا محل لها من الإعراب وجوز أيضاً أن يكون الفعل وحده بدلاً من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها نابع فيه وسبب الإعراب وهو الرفع في الفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معرباً بإعراب سابقه لظهور ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو هنا ليس لها بل للتجرد وأجيب مع الإغماض عما في ذلك التعريف مما نبه على بعضه الرضى أما عن الأول فبان المراد أعرب بإعراب سابقه إن كان له إعراب أو بأن المراد أعرب بإعراب سابقه وجوداً وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث انه مشابه للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبان الشيء قد يقصد لشيء وإن كان متحققاً قبل ذلك الشيء لأمر آخر كألف التثنية وواو الجمع فإنه يؤتي بهما للدلالة على التثنية والجمع فيتحققان ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى المراد بقولهم كل ثان أعرب إلخ كل ثان أعرب لو لم يكن معرباً فتدبر ولا تغفل وجوز أن يكون {يتزكى} بتقدير لأن يتزكى متعلقاً بـ: {يؤتي} علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع ثم حذفت أن فارتفع الفعل أو بقي منصوباً كما في قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي

فقد روي برفع أحضر وبنصبه وقيل إنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت وأيَّاً ما كان يدل الكلام على أن المراد بأيتائه صرفه في وجوه البر والخير.
وقرأ الحسن بن على بن الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم يزكي بإدغام التاء في الزاي.
{وَمَا لِأحد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تجزى (19)}
استئناف مقرر لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للزكى خالصاً لله تعالى أي ليس لأحد عنده نعمة من شأنها أن تجزي وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتي مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تجزي للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجزيه إياها أو يجزيها إياه.
{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى (20)}
منصوب على الاستثناء المنقطع من {نعمة} لأن الابتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنه فعل ذلك لابتغاء وجه ربه سبحانه وطلب رضاه عز وجل لا لمكافأة نعمة.
وقرأ يحيى بن وثاب {ابتغاء} بالرفع على البدل من محل من نعمة فإنه الرفع إما على الفاعلية أو على الابتداء ومن مزيدة والرفع في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس

وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم:
أضحت خلاء قفاراً لا أنيس بها ** إلا الجآذر والظلمان تختلف

وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى الكلام لا يؤتي ماله لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل طلب رضا ربه عز وجل لا لمكافاة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب وإنما أولا لأن الكلام أعني {يؤتي ماله} [الليل: 18] موجب والاستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما عقب بقوله تعالى: {وما لأحد} [الليل: 19] وقد قال سبحانه أولاً {يتزكى} متضمناً نفي الرياء والسمعة دل على المعنى المذكور.
وقرأ بن أبي عبلة {إلا ابتغا} مقصور وفيه احتمال النصب.
والرفع وهذه الآيات على ما سمعت نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقاباً ضعافاً فقال له أبوه ما قال وأجابه هو بما أجاب وقد أوضحت ما أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما أريد ما أريد.
وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال أي أبه إنما أريد ما عند الله تعالى.
وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباس أنه رضي الله تعالى عنه اشترى بلالاً وكان رقيقاً لامية بن خلف يعذبه لإسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر الأليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى عنه أحد الذين عذبوا لإسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز وجل بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عيسى وأمة بني المؤمنل وفيه نزلت {وسيجنبها الأتقى} [الليل: 17] إلى آخر السورة.
واستدل بذلك الأمام على أنه رضي الله تعالى عنه أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في على كرم الله تعالى وجهه وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يرضى} جواب قسم مضمر أي وبالله {لَسَوْفَ يرضى} والضمير فيه لـ: {الأتقى} لمحدث عنه وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وجوز الأمام كون الضمير للرب تعالة حيث قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أن ما أنفق إلا لطلب رضوان الله تعالى: {وَلَسَوْفَ يرضى} الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز وجل وبالجملة فلابد من حصول الأمرين كما قال سبحانه: {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 28] انتهى.
والظاهر هو الأول.
وقد قرئ {وَلَسَوْفَ يرضى} بالبناء للمفعول من الإرضاء.
وما أشار إليه في معنى {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} غير متعين كما سمعت.
وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. اهـ.